مع الفاتحة: خواطر وذكريات
رحلة روحية تتأمل معاني سورة الفاتحة عبر ذكريات شخصية ولحظات وجدانية، تكشف أثر القرآن في حياتنا اليومية.
أتذكرون أول مرة تعلمتم فيها الفاتحة؟ أنا أذكر... كنت صغيراً، أجلس في حِجر جدتي - رحمها الله - وهي تردد معي آياتها آية آية، حتى حفظتها. كانت تقول لي: "هذه مفتاح القرآن يا بني"، ولم أكن أفهم معنى كلامها حينها. واليوم، وقد مرت السنون، وقرأت الفاتحة آلاف المرات، ما زلت أكتشف فيها كل يوم معنىً جديداً، وسراً جديداً.
الفاتحة في حياتنا
نحن نقرأ الفاتحة في اليوم والليلة سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة وحدها، سوى ما نقرأه في النوافل وعند قراءة القرآن. هل فكرتم يوماً لماذا؟ لماذا هذه السورة بالذات؟ إنها ليست مجرد سورة، إنها حوار... حوار بين العبد وربه، حوار يتجدد في كل صلاة، في كل ركعة.
رحلة مع آياتها
عندما أقول "بسم الله الرحمن الرحيم"، أشعر كأني أطرق باب قصر ملكي عظيم، وأستأذن في الدخول. وعندما أقول "الحمد لله رب العالمين"، أشعر كأن كل ذرة في الكون تشاركني هذا الحمد - الشجر والحجر، الطير في السماء والسمك في الماء.
وحين أصل إلى "الرحمن الرحيم"، أتذكر موقفاً لا أنساه... كنت مرة في المسجد الحرام، ورأيت امرأة عجوزاً تبكي وهي تقرأ الفاتحة. سألتها بعد الصلاة عن سبب بكائها، فقالت: "كيف لا أبكي وأنا أقرأ هاتين الصفتين؟ الله يخبرني أنه رحمن رحيم، وأنا العبدة المقصرة المذنبة!".
مالك يوم الدين
وعندما أقرأ "مالك يوم الدين"، أتذكر خطبة سمعتها مرة في مسجد قديم. كان الشيخ يتحدث عن يوم القيامة، وقال كلمة ما زالت تتردد في أذني: "كلنا نؤمن بيوم الدين، ولكن هل نعيش كمن يؤمن به حقاً؟".
العبودية والاستعانة
"إياك نعبد وإياك نستعين"... في هذه الآية سر عجيب. أتذكر يوماً صعباً مر بي، كنت فيه مهموماً مغموماً، فجلست أقرأ الفاتحة، وعندما وصلت إلى هذه الآية، شعرت كأن أثقال الدنيا كلها قد أزيحت عن صدري. نعم، نحن نعبده وحده، ونستعين به وحده، فلماذا الخوف إذن؟
الهداية والصراط المستقيم
"اهدنا الصراط المستقيم"... كم من مرة قرأناها ونحن غافلون! وكم من مرة احتجنا إلى الهداية في أمر من الأمور، ثم تذكرنا أننا نكرر هذا الدعاء في كل ركعة!
مع الناس على الطريق
وفي نهاية السورة، يرسم لنا القرآن صوراً ثلاثاً: المنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين. وكأني بالقرآن يقول لنا: انظروا، هذه هي الطرق كلها، فاختاروا طريقكم. وما أجمل أن نختار طريق المنعم عليهم!
خاتمة
عجيب أمر هذه السورة! كلما قرأتها شعرت أني أقرؤها لأول مرة. كم من معانٍ فاتتني في قراءاتي السابقة! وكم من أسرار لم أفطن إليها!
كنت أظن - وأنا صغير - أن حفظ الفاتحة هو الغاية. ثم علمت أن فهمها هو المطلوب. واليوم أدركت أن العيش بها، والتخلق بمعانيها، والارتقاء في مدارج آياتها، هو المقصد الأسمى.
يا لله! كم نحن محظوظون بهذه السورة! وكم نحن مقصرون في حقها! متى نقرؤها كما ينبغي أن تُقرأ؟ ومتى نعيشها كما ينبغي أن تُعاش؟